الأربعاء، يوليو ٠٦، ٢٠١١

قولوا لمعمر و عياله ليبيا فيها رجالة.. نفس الكلام للمجلس العسكري .. مصر فيها رجالة

أحاول الكتابة منذ عدت من بنغازي الحرة من 3 أيام .. الجميع يقولون لي أكتبي عن ما رايتيه هناك و اقول لهم : لا استطيع فهناك تجارب أكبر بكثير من أن تحتويها أحرف و كلمات و سطور .. تجارب كتبت بأرواح بشر و بدماء شهداء فأخذها ثوار وقوداً لهم لبناء دولة من الحطام .
طوال الطريق الى ليبيا و أنا أقول لرفيقتي الأجنبية أني أشعر بالدونية و أشعر بأن الثورة المصرية ليست ثورة و أن لو الأمر بيدي ما جعلت شهيد واحد يفقد حياته او مصاب واحد يفقد جزء من أجزائه , فلم يتغير شيئ فى وطني .. مبارك معزز مكرم , العسكر يبرتعون يمينا و يساراً , الداخلية لعبت دور اتمسكن لحد ما تتمكن فرجعت ريما لعادتها القديمة, المحاكمات العسكرية تقام للمدنيين , العمال يقال على اضراباتهم من أجل لقمة عيش تساعدهم على الحياة فئوية
و ترد على رفيقتي أتكفرين بما تؤمنين به , اتكفرين بما تحاولي أن تبشري الناس به , ألا تؤمنين بالثورة الدائمة , تقول لي : هل تتخيلي قيام الثورة الليبية لولا سقوط مبارك - حتى لو بشكل شكلي- و أنا كل ما يدور بذهني أنني اعرف ذلك عن ظهر قلب و لكن الواقع المصري محبط مقارنة بالليبي .. ظللنا نتناقش طوال الطريق .. ننام قليلا و نتحدث فى أمور شخصية قليلاً و لكن مرارة الثورة المصرية لازالت فى حلقي .
و لكن اليوم و فى الوقت الذي أشاهد فيه ما يحدث فى التحرير و أنا جالسة مرتاحة فى غرفة معيشتي قررت أن أكتب .. لعلي غداً أستطيع ان أكون فى التحرير مع أهالي الشهداء و باقي الثوار .. قررت أن أكتب و أنا كلي أمل بأنه ربما مجرد ربما أن تحدث ثورة حقيقية .. ثورة لا ترضى بحلول وسط .. ثورة لم تتوه فى مطالب فرعية ديمقراطية عن دستور أولاً أو انتخابات أولاً .. ثورة تأخذ شكل أكثر قوة من الشكل الملون الذي انتهت به ثورة 25 يناير التي بدأت ليست ملونة بشدة و لكن شعبية و عفوية .
الآن الي ليبيا قبل أن أعمى بسبب تدفق الدماء من كثرة الغضب و بسبب الاحساس بالحقارة لعدم القدرة فى المشاركة مع باقي الثوار فى التحرير .
بدأ لون التربة يتغير من تربة صفراء فى مصر الى تربة أكثر احمراراً كلما اقتربنا من بنغازي .. عند وقوفنا على الحدود الليبية تم طلب ملأ استمارة ببياناتنا .. كان من ضمنها اسم الأم .. ابتسمت رفيقتي فى سعادة و قالت أن أكثر البلاد تقدما لا تهتم باسم الأم و كأن المرأة نكرة .. فابتسم لنا موظف الجمارك الليبية الأسمر و قال لنا : مرحبا بكم فى ليبيا الجديدة ... كنت قبلها على عند الحدود المصرية و قال لي العسكري الصغير : استني لما استأذن "الباشا" عشان نشوف ينفع تسافري و لا لأ ..
كل البيوت من أول أمساعد أقرب نقطة للحدود المصرية تشعر فيها بأنك أمام شعب يريد أن يمحي الماضي ليبدأ صفحة فى مستقبل مشرق .. كل البيوت تعلن عن الثورة بوضع اعلام الاستقلال أو عبارات الموت للقذافي
و أخيرا وصلنا بنغازي الحرة بعد 18 ساعة من السفر ..قررنا أنه يجب أن نذهب الى المكتب الاعلامي لشباب الثورة كما قال صديق رفيقتي كنصيحة لنا .. بالفعل ذهبنا الي المكتب الاعلامي القريب من ساحة الحرية عند المحكمة أمام الكورنيش .. دخلنا و قررت رفيقتي الصحفية أنها تريد أن تكتب موضوعاً عن حرية التعبير فى ليبيا المحررة و كيف أنه بعد وطأة 42 عام من نظام شمولي
استطاع الثوار ان ينظموا أنفسهم و يبدأون فى تجارب جديدة بانشاء جرائد و محطات اذاعة و تليفزيون بالاضافة الى استخدام ساحة الحرية كمنبر لليبين للكلام و المشاركة بالشعر أو بالنقاش.
" طول الوقت كنت أشعر أنني منبوذة لأنني يتيمة و لا أنتمى الى قبيلة " هكذا قالت ايمان واحدة من الناشطات فى المركز الاعلامي.. كنت دائماً أشعر بغضاضة فى حلقي بسبب النظام القبلي الذي كان يرسخه القذافي , فكأنني لست ليبية و كأنني ارتكبت جرما لعدم انتمائي لأحد القبائل و مع أني أحترم كل القبائل الا أنني أشعر اليوم بانتمائي الي ليبيا " ... تحتضنها باقي الفتيات و تدمع العيون قليلاً .. تقول فريحة الشابة الطويلة الوسيمة بانجليزية مكسرة و لكن تستطيع أن تفهم منها الكثير: " نحن نحاول أن نقول للعالم كله الليبيون ناس متحضرون و ان القذافي بجنونه و غبائه لا يمثلنا و أننا سنقاتل الى آخر نفس " .. كانت مبتسمة ابتسامة عذبة و كلهم أمل فى المستقبل.. أمل تلك الفتاة الصغيرة ذات ال 19 عاماً التي تتحدث بانجليزية جيدة و لكنها تتعثر بكلمات بسيطة جدا جدا , تقول و هي تضحك و تتحرك كثيراً بشكل عفوي : نحن مدينون للشهداء جميعاً بما نحن فيه الآن .. لولا محمد النبوس الذي ضحى بحياته من اجل ان يبني هذا المركز الاعلامي و بدأ قناة ليبيا الحرة ما كان المئات من الشباب الذين كانوا يتمنوا ان يعبروا عن أنفسهم بحرية .. انا مثلاً دخلت كلية اقتصاد على الرغم من أنني كنت أتمنى العمل فى المجال الاعلامي .. الآن أنا اعمل فيما أحبه " تضحك ضحكة طويلة و تقول لي بلهجة مصرية : ايه رأيك فيا كدة أنا مية مية مش كدة؟؟ .. خرجنا و رفيقتي سعيدة جدا و على ما أظن أنها ستكتب فى هذا الموضوع عدة مقالات و قررنا أننا بالقرب من ساحة الحرية أو التحرير أو التغيير و اننا يجب ان نذهب الى هناك و نرى حقيقة ما سمعناه هناك عن انها أصبحت واحة للحرية .. بالفعل عبرنا من امام الحوائط المليئة بالجرافيتي الملون
عند أول دخولنا الساحة وجدنا مئات السيدات مفترشات الأرض .. استقبلتنا سيدة لتقول لنا : أهلا بكم فى ساحة الاعتصام نحن معتصمون هنا من يوم 17 .. و اخذت تريني كيف أنها بالأساس بيضاء و لكن شمس الاعتصام جعلتها تقترب من لوني , و قالت لي نحن معتصمون هنا حتى ندعم الثوار فى الجبهة و نكون مكان لاستقبال الهاربين من المناطق التي بها نزاع .. و نساعد أهالي الشهداء... و نجهز المسيرات من هنا , و تكون طلباتنا واضحة و ليس كمثل عندكم فى مصر فنحن مثلا ستكون مطالبنا هذه الجمعة هي أن تقوم الدول التى جمدت أموال القذافي لديها باعطائها للثوار .. سألت رفيقتي عن هل يا ترى هناك سيدات يكتبن شعر و يلقينه على الملأ.. تقدمت مننا سيدة فى منتصف الثلاثينات لها عيون جميلة جدا ... و قالت لنا أنها تكتب الشعر و أنها تأتي كل يوم من الصباح للمساء .. سألنها هل هي معتادة على كتابة الشعر .. قالت لنا أن أول قصيدة كتبتها كانت يوم 17 فبراير , فقولنا لها و ألا يمانع زوجك.. قالت أن زوجها مصاب من الثورة و هو فخور بها و هي لم ترزق بأولاد و ترى أن جميع من فى الساحة و من على الجبهة هم أبنائها حتى لو كانوا أكبر سنا .. و بدأت فى القاء شعر ذكرت فيه مصر في عدة أبيات , جاءت سيدة الينا و قالت لنا أنها ستظل معتصمة حتى تحقق مطلبها , سألناها عن مطلبها .. قالت حقوق المرأة فأنا أريد أن أرى سيدة رئيسة للبلاد .. و هنا تدخلت سيدة أخرى و قالت لها هذا لا يجوز و المرأة لا تستطيع أن تحكم بلدا .. قررت أن لا أتدخل برأي في نقاشهم فهم و لأول مرة يجربون النقاش فى العلن .. أخذت أجول بنظري فاذا بي محاطة بصور آلاف من الشهدائ .. أغلبهم يبدو عليه صغر السن .. حولهم صور عمر المختار .. ليسوا جميعا شهداء ثورة فبراير و لكن هناك صور من السبعينات لشهداء نظام القذافي .. ووقفت رافعة رأسي أمام لوحة كبيرة بيها صور عديدة لشهداء و مكتوب عليها شهداء سجن بوسليم عام 1996 و كنت أعلم أن اهالي الشهداء كانوا فى اعتصام منذ يوم 15 فبراير و تعامل المن معهم بعنف فكانت الشرارة الأولى للثورة و بدات المسيرات فى شارع جمال عبدالناصر و من امام مكتب بريد تبستي .
انتهي يومنا الأول القصير بسبب وصولنا المتأخر
بدأ اليوم الثاني , كانت رفيقتي الصحفية تريد أن تحصل على كارنيه صحافةمختوم من المجلس الانتقالي حتى يسهل لنا هذا الحديث مع الناس و لا يخافون من الحديث معنا .. و بالفعل وصلنا لأوتيل أوزو حيث هناك المكتب العلامي الذي سيساعدنا فى هذا .. لم نكن متاكدين من المكان فسألنا فتاة نحيفة ترتدي ملابس على أحدث موضة و كانت متواضعة جدا و ساعدتني بمجرد أن تحدثت معها لأنني مصرية و هي نصف مصرية كان اسمها روز و تدرس الطب و لكنها تساعد فى العمل الاعلامي من منطلق أنها تريد أن تظهر الصورة الحقيقية لليبيا .. و بالفعل جاء المتطوعون فى المركز و كانوا شابتين و شاب و كلهم يتحدثون الانجليزية بطلاقة و لكن بلكنات مختلفة و عندما سألناهم كيف يتحدثون الانجليزية بهذه الطلاقة و نحن نعلم أن معمر كان يمنع تعليم الانجليزية قالوا لنا أنهم كانوا يعيشون فى الخارج و جائوا مع الثورة .. الشاب قال لي أنا نصف مصري و كنت أعيش فى انجلترا .. نزلت من انجلترا على ميدان التحرير و بعدها جأت الى ليبيا حتى ألحق ثورة 17 فبراير .. و فجاة دخلت علينا فتاة محجبة مبتسمة و تتحدث الانجليزية بطلاقة كان اسمها عايشة و أفضل أن اتحدث عنها لاحقاً و ساعدتنا و أعطتنا وسائل اتصال عدة بعدة اذاعات ليبية جديدة و قالت لنا و هذا رقمي لأنه أصبح لدينا أول اذاعة ليبية بالانجليزية و يجب أن تروها , و نحن جالسون كان هناك سيدة فى الخمسينات أنيقة و يبدو عليها اللطف أكتشفنا أنها مصرية و تعمل فى اعداد فيلم وثائقي لقناة ألمانية و اقترحت علينا عدة أماكن لزيارتها و بالفعل زورنا تلك الأماكن مما جعلنا نتعرف بشكل أكبر على المجتمع الليبي .
اتصلنا بأحد الأشخاص المسئولين عن الاعلام فى المجلس الوطني الانتقالي و هذا لأن رفيقتي كانت مصممة على لقاء أحد من المجلس ,, فقال لنا الشاب فلتأتوا حالا لأن هناك وفد دنماركي ببحضور وزيرة خارجية الدنمرك و زعيمة المعارضة الدنماركية حاضرة.. و بالفعل ذهبنا و طوال الطريق تضحك رفيقتي و تقول : أدفع نصف عمري لأسمع ماذا ستقول وزيرة خارجية الدنمرك , فى الواقع لم تقل شيئاً مفيدا سوى كلام عن حقوق الانسان و هو ما أخذت رفيقتي و أنا نتندر عليه لأن الدنمرك أصبحت معروفة كدولة بعنصريتها , انطلقنا بعدها الى جمعية اسمها الأيادي البيضاء كانت الاعلامية المصرية قالت لنا أنها تعلم الأطفال مبادئ الثورة و اللغة الانجليزية و أغاني ثورية و بالعل ذهبنا الى هناك و تعرفنا على شاب صغير السن و رائع اسمه مهند , ساعدنا كثيرا فى تفهم ليبيا تحت حكم القذافي , و قال لنا أنه أيام القذافي لم يكن هناك أى جمعيات اطلاقا لأنه يعتبر الجمعيات كالأحزاب و قد قال المعلم القائد القذافي أن من تحزب خان , و أوضح لنا أن تلك الجمعية كانت من أفكار 7 شباب طلاب فى كلية هندسة لا يتجاوز عمرهم 21 سنة و انضم اليهم أساتذة جامعة بعد ذلك و قسموا العمل الى عدة لجان , لجان حقوقية لمساعدة أهالي الشهداء على انهاء الورق و لجان هندسية تشرف على المباني التي تهدمت بسبب قذائف القذافي أو بسبب اهمال القذافي لها و لجنة اعلامية لنشر كل هذا و لجنة تثقيفية خاصة بتعليم الأطفال و رفع وعيهم... قال لنا نحن نحاول أن ننظم أنفسنا فى كل مكان , و هو ما كنا محرومون منه , سألناه عن اللجان الشعبية , فصرخ قال لنا لا تقولوا هذا أمام أى ليبي اللجان الثورية الشعبية كانت شيئ يتبع القذافي نحن نفضل أن نطلق على أنفسنا شباب ليبيا و قد قمنا بانتخاب الأكبر سناً و الأكثر خبرة فى كل منطقة لتسيرها و حمايتها. انطلقنا من الجمعية و نحن نأكد على مهند أننا سنأتي غدا فى الصباح الباكر لمشاهدة فصول الأطفال , و تحركنا بالفعل الى مستشفى 1200 سرير...

(يتبع)
مستشفى ال1200 سرير قالوا لنا أننا محظوظون لأن هناك عدد من المصابين من الجبهة من مصراتة وصلوا أمس و أننا يمكن أن نتحدث مع واحد او اثنين منهم .. هكذا قالوا لنا على البوابة .. عندما دخلت المستشفى ذهلت من مدى نضافة و تطور المستشفى على الرغم من أنهم يعانون من نقص فى الأدوية .. تخيلت جدتي و هي تقف جنبي و تقول: بيثوروا على ايه جتهم خيبة ماهي مستشفياتهم زي الفل أهي دي مستشفى عام أنضف من المستشفيات الدولي عندنا .. و تخيلتني و أنا أرد عليها أن هناك حوالي مليون ليبي من أصل حوالي 10 مليون مواطن تحت خط الفقر و أن حالة القمع فى ليبيا تجعل من كلمة "الحرية" المطاطة مطلباً كافياً لعدة ثورات .. و تذكرت "عنتر" أحد مصابين الثورة الذي لم أزره سوى 3 مرات فى المستشفى الميري و كيف أنه بالاضافة الى شلله و ضياع مستقبله كان يجلس فى المستشفى مع القطط التي هي أحن عليه من حكومة الثورة التي لا تهتم به... قابلنا دكتور و الابتسامة على وجهه كان له ذقن و بنطال قصير فظننته سلفي فقررت أن لا أمد يدي لأصافحه حتى لا يتضايق .. فوجدته يمد يده ليصافح رفيقتي و يصافحني و أخذ يتحدث معنا بالانجليزية و يصف لنا ما يحدث فى ليبيا و تنوع الاصابات بسبب وحشية كتائب القذافي و بسبب بساطة تسليح "المتمردين" الذي اعترض على تسميتهم كذلك و قال لنا أنهم "محاربون حرية " فهم لم يتمردوا أو ينشقوا على نظام .. انهم يبنون نظاماً و أنهم جميعاً هدفهم الحرية .. اعتذرنا له بشدة ووافقناه على الكلمة بشدة .. ابتسم و قال لنا أنا أول الثورة كنت بقسم وقتي بين المظاهرات و بين المستشفى .. و قد قمنا بعدة مظاهرات كأطباء .. ابتسم فى وجهنا و قال لنا : أنها تجربة عظيمة أن تقول لا على ظلم سنوات .. نحن لسنا معتادين على فكرة المظاهرات كما فى أوطانكم ..
أخذنا فى جولة بين عدد من المصابين .. كان هناك مصاب من التشاد.. قال لنا هذا عبدالرحمن .. أسلم منذ سنتين و أنضم للثوار .. ابتسم لنا عبدالرحمن و قال لنا بالانجليزية : آسف أعلم أنه من الأدب أن أقف لأحي سيدتين و لكني للأسف مشلول .. و أخذ يبتسم أكثر .. ابتسم له الطبيب و قال له يا عبد الرحمن انشاء الله ستتحسن حالتك.. و ستقف لتحي من تريد.. ثم بعدها اخذنا لمحمد محمود.. كنا متخوفين ان نوقظه و هو ملقى على السرير.. كان من المجموعة الآتية اليوم السابق من الجبهة .. كان فى وجهه شيئ مريح ينم عن حالة رضا صوفية عجيبة .. كان مصاب فى قدمه و بطنه ووصلت الاصابة للعمود الفقري.. قال لنا محمد : القذافي المجنون يضربنا بكل شيئ .. راجمات و ذخيرة .. و نحن تسليحنا ليس قوي.. هذه أول مرة فى عمري الممتد ل 21 عام أحمل فيها سلاح .. سألناه : ما رأيك فى الناتو: قال لنا : شر لابد منه و لكنهم يتاخرون دائماً ولولا وجودهم لكان القذافي قد محانا , سألناه عن الأوضاع فى مصراتة : قال لنا نحن الآن نسيطر بشكل أفضل و لكن لازالت الحرب مستمرة .. و أنا مؤمن أن يوم القذافي قريب .. سألناه هل يمكن أن نأخذ صورة له .. وافق على الفور و حمل شهادة تقدير كان قد تسلمها صباحاً .. تركناه و نحن نتمنى له الشفاء فقال لنا أدعو أكثر فأنا أريد أن أحتفل بالانتصار على الجبهة ..
أخذنا بعدها الطبيب الى منير .. منير طفل عنده 3 أشهر من أهالي مصراته .. مصاب من 40 يوم فى رأسه و تم خياطة رأسه و هو فى المستشفى مع والده ووالدته .. قال لنا والده أنه أصيب عندما كانوا يحاولون الهروب من المنزل بسبب الضرب .. جاءت شظايا فى رأس منير .. و لكن الحمدالله قال لنا الطبيب أنه سيخرج قريباً.. كنت أتمنى أن اعود به الى مصراتة و لكني سأضطر أن أنتظر هنا فى بنغازي فترة حتى ننتصر.. كان منير طفل هادئ ووديع .. بالاضافة الى أني كنت معجبة جداً باسمه ..
قال لنا الطبيب الآن سنذهب الى وفاء ذات ال 10 اعوام .. و لكننا يجب أن نعقم انفسنا لأنها فى العناية المركزة .. دخلنا العناية لأجد فتاة محاطة بأجهزة من جميع النواحي و كانت نائمة .. قال لنا الطبيب وفاء من منطقة الكفرة .. هي الآن من المناطق المحررة و لكن للأسف ستعيش وفاء مشلولة تماماً و قال لنا أن أهلها نقلوها فى رحلة بالسيارة بعد اصابتها وصلت ل11 ساعة مما ضاعف من سوء حالتها .. طلب طبيب آخر أن لا نأخذ صور لها و نحن أكدنا أننا كنا لن نفعل ذلك لأنه لا يوجد احد من أهلها معها حتى نستاذنه او نستأذنها .. عندما سالت رفيقتي عن حالتها النفسية قال لنا الطبيب أنها متقبلة الوضع ..
قررنا أن نكتفي بذلك حتى لا نضيع وقت الطبيب و حتى لا نرهق المرضي , و قال لنا الطبيب و نحن نودعه أرجو أن تقضوا وقتا سعيدا فى بنغازي الحرة و أتمنى ان أراكم مرة أخرى عندما تحرر ليبيا كلها ..
خرجنا من المستشفى و انا أشعر باحساس من الخزي .. أريد أن أحمل السلاح و أن أقف بجانبهم هناك .. لا أجد اى معني لرحلتي التفقدية للمصابين ..كان بدأ الظلام يخيم .. فقررنا ان ناخذ تاكسي للذهاب للفندق.. وجدنا شاب ينظف سيارته فقلنا له على اسم الفندق.. فوافق .. اسمي : هاني قال لنا هذا و هو مبتسم .. ما رأيك يا هاني فى الناتو ؟؟ , قال لنا أنا القذافي أحب الي من أمريكا هذا رأي , فقالت له رفيقتي و لكن كل من سألناهم و يوافقون على تدخل الناتو هم ضد التدخل الأجنبي و ضد امريكا.. قال لنا هذا راى و لكني لا أستطيع أن اقوله لأنه سيجلب علي غضب شعبي كبير , فقالت له رفيقتي تعني أنه لا توجد حرية تعبير؟؟ , قال لها بالطبع لا , هل أستطيع أن انتقد المجلس الانتقالي مثلاً , قلت له من حقك طبعاً , قال لي أن الليبين كانوا يضربوني ... قلت له و لكن ايام القذافي كنت ستعدم , قال لنا بالتاكيد :و لكني لا أكره القذافي الى هذه الدرجة و لكني لا أستطيع أن أقول هذا .. ابتسمت و قولت الحمدالله هكذا تأكدت أنني لا أحلم و أنني فى حياة عادية حيث أنه من الممكن أن يفضل البعض جلاديهم و هم راضون .. بالنسبة لي كانت واحدة من اهم المحادثات لتكسر الحالة الوردية للحلم الذي كنت أعيش فيه و لكني لم أكره الشاب اطلاقا بل بالعكس أحببته و شعرت انه صادق , حتى عندما قال لي أنه يقول على مبارك رضي الله عنه لأنه لم يقتل عدد كبير من شعبه ..
أخذنا رقم تليفونه و الى الآن أعطيه لكل اصدقائي المتجهين الى ليبيا ...

(يتبع تاني معلش)
اليوم الثالث: توجهنا الى جمعية الأيادي البيضاء حسب موعدنا مع مهند الشاب الليبي الذي أثبت لي أننا محظوظون لعثورنا عليه , كان موعدنا فى الصباح الباكر حتى نحضر فصل من الفصول الثورية للأطفال قال لنا مهند أن الدراسة متوقفة فى المدارس منذ بداية الثورة و هذا جعل محموعات شبابية تستولى على المدارس لتشغلها فتعطي دروس للأطفال أو تقوم بعمل اذاعة او جمعية لمعاونة أهالي الشهداء و المصابين .. دخلنا الفصل .. أطفال من عمر السابعة الى ال11 .. بنات و اولاد كانوا يجلسون فى الفصل على هيئة مربع ناقص ضلع .. ذلك الشكل الذي يتيح للجميع أن يتفاعل مع بعضه .. دخلت وجدت مدرستين قى آواخر العشرينات من عمرهن .. .. كان الفصل كله رسوم للأطفال أغلبها عن أهلم فى الجبهة أو بعض الرسومات التهكمية للقذافي.. لفت نظري علمي تونس و مصر بجوار بعضهم .. و قالت لي المدرسة : أننا نشكر كل من تونس و مصر و ثورتهما و شبابهما .. شعرت بدموع تحتبس فى عيني ففى الوقت الذي كنت بدأت أكفر فيه بثورتنا أجد الجميع يحيونها .. كان هناك سبورة مليئة بكلمات بالانجليزية كلمات مثل : المساواة و الاستقلال و العدل.. قالت لي المدرسة نحن نعلم الأطفال مبادئ ثورتنا و قليل من الانجليزية التي منعها القذافي منذ أواخر الثمانينات .. أنا شخصياً لا أعرف الكثير من الانجليزية و لذا انا أتمنى أن يتعلم الأطفال حتى يكون مستقبلهم أفضل من مستقبلي .. وقفت امام لوحة مرسوم عليها خريطة ليبيا و عليها نجوم على أماكن المدن .. و لكن النجوم ألوانها مختلفة .. سوداء تماما و حمراء تماما و أخرى لونها أخضر و احمر و أسود .. و عندما سألتها عن النجوم قالت لي كل لون يعبر عن حالة المدينة , اذا كانت حمراء فهي نقاط المواجهة , سوداء فهي محاصرة و تابعة للقذافي أما التي بلون علم الاستقلال فهي المدن المحررة .. فنحن كل يوم صباحاً يأتي الأولاد الينا بالأخبار فنتناقش فيها و اذا كان هناك شيئ غير صحيح نصححه لهم , و نحاول ان نداوي حالات الهلع التي تصيبهم من جراء خوفهم على أهلهم ..قالت و هي مبتسمة : أنا أعلم اغلب اخباري من الأطفال فهم الأصدق بالاضافة الى كون مجموعات من أهلهم موجدون على الجبهة , هناك مثلاً رحمة فعمها على الجبهة الآن , توجهنا الى رحمة - ذلك الاسم الذي دائما ما يقترن بأشخاص يطلبون الرحمة , اسم يقترن دائما عندي بالمقهورين و الكادحين- كانت تلون لوحة مرسوم عليها ورد , قلنا لها : أنتي عندك حد على الجبهة؟؟ قالت لنا : عمي و بيتصل بينا مرتين فى الاسبوع يقولنا ايه اللي بيحصل , سألناها عن رأيها فى القذافي : قالت : حنموته , و هنا أتت لنا المدرسة بطفل صغير فى السابعة من عمره كان شعره مكتوب عليه 17 فبراير , هكذا قال لنا أنه طلب من الحلاق أن يقص شعره حتى يكتب 17 فبراير على جهة و على الجهة الأخرى كان الهلال و النجمة, و قفت احد الفتيات ترينا علم تونس و قالت لنا أنها تحب تونس لأنها تساعدهم و تأخذ الجرحى لتعالجهم , قبل أن نرحل طلبت المدرسة من الطلبة أن يغنوا نشيد ليبيا الحقيقي , وقف الطلبة جميعاً يغنون : يا بلادي يا بلادي بجهادي و جلادي .. أدفعي كيد الأعادي و العوادي و أسلمي و اسلمي و اسلمي طول المدي انما نحن الفدا .. ليبيا ليبيا ليبيا .... كان الطلبة متحمسون جدا و بعدها أخذوا يهتفون : ارفع راسك فوق أنت ليبي حر.. نظرت الى المدرسة فوجدت فى عينيها ذلك الشعور الغريب بالفخر و الحسرة.. فخر بأنها تشارك فى صنع مستقبل أفضل لم تحظى عليه .

تحركنا الى اذاعة شباب ليبيا 101 أف أم .. واحدة من مبادرات شبابية عدة , على البوابة تركنا بطاقتنا الصحفية و دخلنا لنسأل على "جياد" و هو الشخص الذي حصلنا على رقمه من المكتب الاعلامي و لكننا للأسف لم نجده فتلاقانا شاب اسمه "يزيد" يزيد شاب فى ال 25 من عمره خريج كلية الهندسة و هو و 3 من زملائه هم من أسسوا المحطة , قال لنا الفكرة بدأت لدي و أنا فى السيارة , وجدت أن اذاعات القذافي تصل لنا و أنا أبحث و لا يوجد اذاعة للثوار سوى اذاعة ليبيا الحرة أيه أم التي تصل الى المناطق المحاصرة و لكن فكرنا أنه يجب أن يكوةن هناك عدد أكبر من الاذاعات حتى يكون هناك تنوع و تعدد , ذهبت الى صديقى الذين يعملون كمهندسين و استعنا بمعيد فى كلية الاعلام و بدأنا الاذاعة فى شهر أبريل , بدأناها بموسيقى فقط ثم أصبح هناك العديد من البرامج , لازلنا نعمل فترة واحدة و لكننا ننوى أن نطور أنفسنا , فأصبحنا الآن حوالي 50 شاب و فتاة يعملون معاً , سألناه هل يا ترى يعلم ما اذا كانت الاذاعة مسموعة أم لا , قال لنا أنه هناك شيئان أكدوا له أن الاذاعة مسموعة , أولاً عدد الرسائل التي تصل لهم و ثانياً : كمية الاعلانات التى تأتي اليهم , و الاعلانات هي ليست اعلانات تجارية و لكنها اعلانات ثورية عن فعاليات و مظاهرات و أحداث , كان يتحدث بانجليزية جيدة , سألناه أين تعلم الانجليزية , قال لنا أنه تعلمها فى ليبيا حيث أنه مع الانفراج فى العلاقات بين القذافي و أمريكا أعاد فتح مراكز تعليم اللغات , قال لنا أن الشباب الآن يشعرون بالانتماء الى ليبيا و أن لديهم مسئولية اتجاه بلدهم . سألناه عن المكان الذي نحن فيه , قال لنا هذه مدرستي الثانوية , ذهبت الى المدير و قلت له أننا سنأخذ دور بها لعمل المحطة
و نحن نحيه قلت له هل تحتاج أى مساعدة من مصر, قال لي : يكفي ثورتكم , شكراً و اذا احتجنا أى مساعدات تقنية فأقرب بلد الينا هي مصر .

كان موعدنا التالي هو مع نائب رئيس المجلس الوطنى الانتقالي عبدالحفيظ جوقة , عندما أخذنا تاكسي الى المراسم لم يكن السائق يعرف المكان و كنت متعجبة من هذا .. كيف لا يعرف السائق مقر المجلس الانتقالي الذي كلما مررت بأحد شكر فيه - ماعدا سائق التاكسي هاني- دخلنا فيلا ليست بكبيرة بحديقة صغيرة انتظرنا قليلا أنا و رفيقتي وبدأنا نتناقش فليلاص حول الاسئلة التي يجب أن تطرحها على نائب رئيس المجلس , كان ما يسيطر على عقولنا بشكل أساسي هو دور الناتو و موقف المجلس منه .. فنحن كانت مواقفنا و نحن بعيد الرحلة فى تلك عن ليبيا أن الناتو يريد البترول.. و لا أظن أنه تغير بعد رحلتنا و لكن ما تغير هو أننا رأناه شر لابد منه ففي حين نجلس جميعاً لنسب الناتو و مساعدته و نقول أنه يجب تسليح الثوار فأن القذافي يمحي الليبين من على وجه الأرض.. يقتلهم بالآلاف و نحن نجلس لنناقش مشاكلنا الاخلاقية فى التكيفات .. دخلنا الى مكتب عبدالحفيظ جوقة , كان هناك شاشة تعرض قناة الجزيرة .. استقبلنا الرجل بابتسامة عريضة و خاصة أن الميعاد كان محدد باسم صحيفة سويدية , و كانت الاسئلة تتمحور حول مستقبل ليبيا بعد قذافي و دور الناتو و التدخل الأجنبي و موقف المجلس من تنظيم القاعدة , و كانت الاجابات تأكد على أن المجلس الانتقالي ليس حاكم لليبيا و أنه ممثل من كل المناطق الليبية و أنهم سيسلمون البلاد لحكومة وطنية بعد الاستقلال و سيساعدوا فى وضع الدستور , و أن أولويتهم ستكون للمنطقة العربية و الأفريقية مع وجود علاقات مبنية على احترام السيادة المتبادل مع الغرب و أنهم سيبنون بلدهم بأنفسهم و لن يسمحوا بأى تدخل أجنبي و أن الدول التي ساعدت فى حماية المدنيين عن طريق الناتو سيكونون أولى بالرعاية و لكن هذا لا يعني اهمال باقي الدول و أن الأقاويل التي تقول أن المجلس الانتقالي هم من القاعدة هي أقاويل غير حقيقية و أن الثورة الليبية بدأت سلمية تماماً حيث أنهم كانوا يحملون لافنات تطالب بدولة قانون و مؤسسات و كتابة دستور فرد عليهم القذافي بذبحهم فماكان لديهم سوى أن يحملوا سلاحاً و يجاهدوا , جلسنا معه حوالي 20 دقيقة و على ما أظن أنه من الأفضل أن أضع رابط للحوار عندما تنشره رفيقتي ليكون الحديث أكثر دقة .

عدنا مرة أخرى الى "مهند" فى الأيادي البيضاء حتي يأخذنا الى اذاعة ليبيا الحرة , أولى الاذاعات الليبية المستقلة , أوقفنا شاب يحمل كلاشينكوف على البوابة , و أخذ الرسالة التى كانت معنا من المكتب الاعلامي, دخلنا مبني متهالك جداً و به عدد من الكراسي المحطمة و عدد من الأطفال و الشباب و السيدات يتجولون , كانت أول مرة أرى هذا التنوع فى الأعمار , فمنذ وطئت قدمنا ليبيا و أغلب الوجوه لشباب فى العشرينات, جلسنا قليلاً و أتى الينا رجل يبدو انه فى منتصف الاربعينات ملابسه ليست مهندمة و أغلب اسنانه غير موجودة و يبدو أنه مدخن شره , ظننت أن الفراش , و لكني وجدته يعرف نفسه أنا المهندس صالح , مهندس اتصالات و كنت أعمل هنا قبل الثورة , كان ذلك المكان محطة اعادة بث لبعض الاذاعات التي تأتي من طرابلس , يوم 18 فبراير , دخلت هنا و قرأت بيان يقول أيها الثوار , لقد قررت انا و صديق آخر يعمل مهندس أيضاً أنه لا يستقيم أن يكون القذافي يقتل ابنائنا و نستمع الى خطبه , قررنا أن نسير المكان ليصبح محطة بث اذاعي و ليس اعادة بث, كنا اثنين فقط فى البداية و لكن عندما سمع من كانوا يعملون معنا صوتي فى الاذاعة عادوا الي هنا و بدأنا نعمل, معاً مرة أخرى , نركز هنا على البرامج التي تبين الحقيقة و الآن أصبح لدينا بث على الانترنت أيضاً بالاضافة الى ان بثنا يصل الى كل ليبيا و لكن القذافي يحاول أن يشوش علينا فى المناطق التي تحت سيطرته , سألناه هل يا ترى المحطة تأخذ اذن من المجلس الانتقالي , قال لنا : لا , نحن مسصتقلون تماما و حتى هناك من ينتقدون أداء المجلس على اذاعتنا , بالاضافة الى تخصيص ساعة مفتوحة تماماً لأى شخص يريد أن يأتي الينا و يستخدم ميكروفون الاذاعة ليقول ما يريده.. كنا مبهورون بحماسته و حيويته بالاضافة الى حسه الفكاهي , و لكن فجأة وجدناه يبكي , و يقول لنا أنكم لا تعلمون ماذا يعني أن ترى شهداء و شهداء يسقطون أمامك و يتم تشويههم و أن يقال عليهم مرتزقة , كدت أن أدخل معه فى وصلة البكاء فللأسف أنا أعلم ماذا يعني أن تكون حي بسبب تضحيات آخرين و تستمع الى اهانتهم و تجد نفسك لا تملك شيئاً سوى محاولات رد هذا بأبسط الوسائل .. أخذنا فى جولة فى المكان و هناك وجدنا فتاتين داهخل الاستديو و مهندس صوت يذيعون برنامج عن التاريخ الليبي و مدى مقاومة الليبين للاستعمار ,و نحن نتحرك الى موعدنا الآخر و هو موعدنا مع اذاعة "تريبيوت رادي," أول اذاعة باللغة الانجليزية فى ليبيا , وجدنا استاذ صالح يهرع الينا و يقول : أنا آسف لقد استأثرت بالحديث و لم أعرفكم على آخرين حتى تجرون معهم حديثاً , يبدو أن حياتي فى عهد القذافي جعلت لذي رواسب تحكم , ابتسمنا له و قولنا له ليت كل المتحكمون مثلك..

كان لازال لدينا حوالي ساعة و نصف على موعدنا التالي فقرر "مهند" أن يصطحبنا لاحتساء القهوة , و هذا ما كنا نحتاجه بسبب هذا اليوم الطويل , جلسنا فى هذا "الكافيه" ذو الطابع الغربي المزين بأعلام الاستقلال , كنت أنا و رفيقتي الفتاتين الوحيديتين فى المكان المزدحم - نادراً ما أطلق على نفسي فتاة و لكن هناك شعرت أنني غريبة , الكل ينظر بتعجب لفتاتين جالستين - و بدأنا نتناقش أكثر مع مهند عن رؤيته للمرأة فى الثورة و أوضاع ما بعد الثورة و موقفه من القبيلة و الأحزاب , قال لنا: أنتم رأيتم بأعينكم فتيات يعملن معنا فى الجمعية و أظن ان الفتيات سيصبح لهن دور كبير فى المستقبل بما لا يخالف العادات و القتاليد و الشرع , فقال لنا نحن نطالب بالحرية و لكن حرية بضوابط فنحن لسنا كالغرب , فالغرب يتعامل مع الفتيات على أنهن سيجارة يشربها شخص و حين ينتهي منها يسلمها للآخر, ضحكت صديقتي "الغربية" و ضحكت من التشبيه , ضحكنا ليس استهزاءاً و لكن لأن هذا ما يحفر فى الأذهان , ثم قال لي : سيكون لدينا حرية كمصر مثلاً , و هنا لم أستطع أن أتمالك نفسي من الضحك و أنا أتذكر حرية فحوص العذرية , ثم قال لنا أتمنى ان تكون فى ليبيا أحزاحترم ب فأنا أ حترم قبيلتي و لكني أريد أن أختار شخص بناءاً على افكاره , أريد ان أجرب هذا الاحساس , الاحساس بحرية الاختيار , الاحساس بأني انسان لدي الحق فى الاختيار .. سألته رفيقتي ألم يكن هناك أى شخص يحب القذافي , قال لنا : أغلب من يحبونه لديهم مصالح مشتركة معه , او هم جزء من النظام , بالاضافة الى القليل من جيل ابائنا الذين لم يروا غيره , نحن كنا كي ننتقد القذافي كنا نفعلها وسط المربوعة فقط وسط عائلتنا .. ثم سأل رفيقتي عن امكانية الذهاب الى السويد لأنهم يفكرون فى عمل معارض كاريكتير للشهيد قيس الهلالي فى عدة دول للتعريف أكثر بالقضية الليبية ..

تحركنا بعدها الى "تريبيوت راديو" أول اذاعة ليبية بالانجليزية , كان موعدنا مع "عائشة" الفتاة التى تعرفنا عليها فى المركز الاعلامي , دخلنا لنجد مبنى عليه ملصقات عديدة , لعدة مجلات و جرائد و اذاعات , كنا قد تأخرنا قليلا على موعدنا فكانوا دخلوا الاستوديو . فكان يجب أن ننتظرههم حتى يأخذوا أول فاصل , جلسنا على الأرض , حيث أن المكان يبدو عليه أنه تحت الانشاء , وجدنا شخص يأتي لنا بكرسي فقلنا له أننا نفضل الجلوس على الأرض , ليناديه شخص آخر بأنه حان وقت التسجيل , سألناه ماذا تفعلون , قال لنا نحن فرقة "ديث ميتال" ليبية , نلعب منذ أكثر من 7 سنوات تحت الأرض و لكننا الآن سنسجل لأول مرة أغانينا علناً.. اختفوا فى غرفة , و جلست مع صديقتي نتحاور قليلاً , فتح الباب أمامنا فوجدنا عائشة مبتسمة و تقول لنا تفضلوا , فى تلك اللحظة خرجت عدة فتيات يبدو انهن فى سن المراهقة , ملامحهن غربية أكثر و ملابسهن على أحدث موضة , كن يضحكن و يقولن أن هناك "شوكلت فادج" من أجل الاحتفال برحيل صديقة لهم , كانت عائشة الوحيدة المحجبة فى تلك الجلسة , دخلنا الاستوديو الي هو غرفة مبطنة بفل , مكتوب بالاسبراي على الحوائط كلمات بالانجليزية مثل : سلام و حرية للأبد.. ولفت نظري كلاشينكوف بجوار كلمة "سلام " بالانجليزية , و كانت الجملة العربية الوحيدة المكتوبة هي : الله أكبر فوق كيد المعتدي.. دخلت الفتيات و هن يحملن أطباق "الفدج" و يعزمن على مهندس الصوت , كان كل الحديث بالانجليزية , و لاحظت أنهم لا ينادون بعض باسماء حقيقية بل باسماء مستعارة , ماعدا عائشة , بدأ التسجيل , كانوا يتحدثون عن أطباء الأسنان , شعرت لوهلة بالاختناق , كيف يكونوا فى تلك الحالة من "الحرب" و الدماء و يتحدثن فى أمر تافه مثل هذا , و حان وقت الفاصل فتكلمنا مع عائشة .. عائشة فتاة ليبية كانت تعيش طوال حياتها فى كندا , محجبة و بشوشة , سألناها عن سبب عودتها لليبيا , قالت لنا : لقد عدت ليبا من سنة و نصف , قرر أهلي ان يتركوا كندا و يذهبوا الى السعودية , فقلت لهم أفضل ان أعود الى وطني , و بالفعل أنا أعيش هنا وحدي و أعمل مدرسة لغة انجليزية , سألناها ألم يتغير نمط حياتك, قالت : لا لم يتغير فأنا ارتدي نفس الملابس فى كندا و ليبيا و أخرج مع أصدقائي و صديقاتي فى كندا و ليبا .. فقلنا لها و ماذا عن فكرة الراديو.. قالت الفكرة أتت من كوننا مجموعة من الشباب الليبين الذين عاشوا حياتهم خارج ليبيا و عادوا مع الثورة أو قبلها و كانت فكرتنا أننا نحتاج أن يسمع الشباب الليبي المغترب صوت الحرية يأتي اليه من بلده , ليشعر بالفخر بوطنه, سألناها : لماذا تنادون بعض باسماء مستعارة ؟؟ و لماذا أنت الوحيدة المتمسكة باسمها ؟؟ قالت : أنا فخورة باسمي فهو اسم السيدة عائشة , أما الآخرون فلديهم أهل فى طرابلس و هم خائفون عليهم أما أنا فعائلتي كلها بالخارج .. كان قد انتهى موعد الفاصل و عادوا مرة أخرى .. بدأ الحديث يأخذ شكل مختلف .. أخذت المجموعة كلها تتحدث بحنين عن طرابلس و أنهم لا يرون عاصمة لليبيا سوى طرابلس .. ثم تطرق الحديث لقضية الايدز فى ليبيا و هنا قالت عائشة : و الله هناك ملايين الأسباب لنكره هذا القذافي.. ثم أعلنت عائشة فى آخر الحلقة عن أن سفينة سوف تأتي الى ميناء بني غازي من طرابلس و عليها عائلات من بني غازي كانت موجودة فى طرابلس .. هكذا علمنا كيف سيسير يومنا غداً .. بالتأكيد نريد ان نسمع لأشخاص يأتون من الجانب الآخر.. انتهي اليوم الثالث و أنا أشعر بالاحراج لأنني حكمت على هؤلاء الشباب بالتفاهة .. احتقرت نفسي بشدة .. لا يجب أن يمشي الناس حسب طريقتي كي أقتنع بهم فهؤلاء الشباب يضحون بحياتهم و يعرضون أسرهم للخطر و أنا استهزء بهم .. و انا خارجة من الاستوديو كنت معجبة و بشدة بعائشة تلك الفتاة التي أظن أني أختلف معها فى عدة أفكار و لكني أحترم قوتها و عزيمتها .

اليوم الرابع: كنا قد ضبطنا المنبه على الساعة السادسة صباحاً حتى نصل الى الميناء باكراً, و عندما نزلنا لنتناول الافطار .. وجدنا فريق أحد القنوات عائد و هو يقول ستتأخر السفينة .... عندما وصلنا الى الميناء رفض الحراس أن يدخلوننا و قالوا غير مسموح بدخول صحفيين أو اعلام .. كانت الشمس حارقة .. لازالت تاركة أثرها على جسدي حتى الآن .. قررنا أن نبحث عن مكان أكثر ظلاً .. فوقفنا مع الأهالي الذين ينتظرون عائلاتهم .. السلام عليكم .. ردوا علينا و عليكم السلام .. جذبني رجل مسن بجلباب بني من ذراعي و قال لنا أنتم صحافة ؟؟ فقلت له : هي صحفية أنا فقط أساعدها فى الترجمة .. قال لي : لماذا اذن لا تذهبون الى السجون فى طرابلس , لماذا لا تذهبون لتروا كيف يعذب المجنون ابنائنا حتى الموت , لماذا لا تذهبون الى مصراتة لتروا خيرة شباب بلدنا يتساقطون؟؟ سوف تحميكم جنسيتكم الأجنبية لن يمسسكم ضرر .. و هنا قال له صديقه بجانبه: بل سوف يقتلهم ألم ترى عدد المراسلين و الصحفيين الذين ماتوا أو أصيبوا.. تركناهم عندما رأينا اعداد الصحفيين و المراسليين تتزايد على البوابة .. لم يدخلوا أحد سوى طاقم الجزيرة .. قالت لنا مراسلة رويترز الجزيرة فقط لها حق لدخول فهي الراعي الرسمي للثورة الليبية .. و فجأة قرروا أن يدخلونا بعد فترة .. ظللنا منظرين فى الشمس .. فجأة رأينا عبر الأفق سفينة عليها علامة الصليب الأحمر تقترب .. و اقتربت من الرصيف و بدأنا نسمع الهتاف : الله أكبر الله أكبر .. لم أستطع ان احدد هل هو آتي من السفينة أم من الرصيف فقد كان الصوتين مختلطين .. كان كل من على السفينة يبدو عليهم حتى من بعيد علامات السعادة .. يحملون علم الاستقلال .. بجواري كانت هناك سيدة تحمل علم الاستقلال و تلوح به بشدة .. فجأة رأيت مجموعة من الفتيات فى السفينة يهتفن : قولوا لمعمر و عياله ليبيا فيها رجالة .. قالت لنا المسئولة فى الصليب الأحمر أن الصليب الأحمر تطوع فى تلك العملية للم شمل العائلات , فاليوم يأتي حوالي 350 شخص من أهالي بنغازي الذين كانوا يسكنوا طرابلس .. و من المفترض ان يعود حوالي 100 فرد من طرابلس فى نفس اليوم الى طرابلس... لا أعلم لماذا أحسست أني أشاهد عائلات من أحدى الكوريتين تحاول أن تصل الى الكوريا الأخرى . و قفنا وانتظرنا طويلا حتى ترسوا السفينة .. و بالفعل رست .. أخذ الأفراد يخرجون و تحول شعوري الى أن هذه سفينة نوح و أن هؤلاء هم من نجوا من الطوفان .. الكل يخرج مبتسم , تحدثنا الى فتاة تدعى سهيلة و قالت لنا : فى طرابلس هناك ثوار و لكنهم غير ظاهرين للحفاظ على انفسهم و سيظهروا فى الوقت المناسب .. و رجال القذافي يتتبعون كل من هو من بنغازي أو من المدن المحررة , فالقذافي يرى أن بنغازي هي عاصمة الثوار فيريد ان يعاقب أهلها و لكننا لن نتركه فقد حرمنا جميع حقوقنا .. كان أهلها ينادونها و قبل أن تصل اليهم كان هناك من يرحبون بها و يعطونها شوكولاتة وورود .. وقفت و رأيت بعيني رجل عجوز يحتضن ابنه و يبكي و امرأة مع زوجها و اطفالها و يبدو عليهم السعادة .. و نحن نتحرك لنرحل حتى نترك فرصة للشتاتين أن يجتمعا عد أن ظنا كل الظن أن لا تلاقيا , وجدنا سائق أتوبيس يشير لنا أن نركب معه و بالفعل فعلنا ذلك لأننا كنا تعبنا تماما من الشمس .. عندما ركبنا قال لي السائق أنه أصلا خريج كلية تجارة و لكنه ترك العمل الحكومي يوم وجد رئيسه يسرق .. ابتاع هذا الأتوبيس و هو يعمل عليه و كان متواجد فى الميناء كي يقل الآتون و لكنه وجد أنهم جميعا لديهم من ينتظرهم , قال لي : لهجتك مصرية .. آه لو تعلمين مدى فخري بتونس و مصر و ليبيا .. لقد أثبتنا للعالم ان العرب أحرار و ان لدينا كرامة .. و نحن نرتجل من الأتوبيس رفض أن يتقاضى مننا اموال و قال لنا فقط أدعوا لنا بالنصر.
ذهبنا الى المركز الاعلامي قرب ساحة الحرية لنأخذ اعداد من بعض الجرائد التي يصدرونها .. يصدرون 3 جرائد بواقع عددين أسبوعياً, عدنا الى الفندق لأن الشمس كانت قد قتلتنا و هناك أخذت اتفحص الجريدة التي يصدرها الشباب و هناك قرأت أهم و أصغر خبر فى الجريدة بالنسبة لي .. أن أحد الأحياء انتخبت مجلس محلي من أهله و أنه يدعوا باقي الأحياء لانتخاب مجالس محلية .. ذهبت كي أنام و أحلم ببشر يحلمون و يحققون أحلامهم بايديهم و غفوت قليلا لأصحى على الصوت اليومي للتفجيرات و طلقات الرصاص و لأن هذه هي الليلة الأخيرة لنا فى بنغازي فقد قررت أن اتصل بالاستقبال لأعلم ماذا يحدث لأن كل ما أراه من البلكونة أضواء قوية و رجال بملابس ميلشيات يهرعون فى الشوارع , ليقول لي موظف الاستقبال أنه مجرد تدريب

اليوم الخامس و الأخير: اليوم سنرحل عن بنغازي , انا و رفيقتي يحيطنا الحزن .. لازال هناك الكثير الذي نريد أن نكتشفه .. لقد وقعنا فى غرام المدينة , وقعنا فى غرام أهلها , وقعنا فى غرام من يبنون طرق نور من رماد , آخر موعد لنا هو فى مطعم القلعة مرة أخرى لنرى ماذا يفعلون ..دخلنا لنجد عند المدخل سيارة نقل كبيرة مكتوب عليها "جيش الشعب" ..دخلنا لنجد شباب و سيدات واقفون على طاولتين طويلتين .. أخذنا نبحث عن الشيف "فهمي" رحب بنا بشدة و قال لنا هيا كي أريكم كيف نعد الطعام للثوار.. وجدنا سيدات يقفن على أواني كبيرة جدا .. يقلبن .. عرفنا على واحدة "رحمة سلمان" - انظر تعريفي لاسم رحمة سابقاً- شعرت أنني أقف أمام "نينا سيمون" امرأة يبدو عليها القوة ببشرة داكنة و لكن هناك حزن مخلوط بتحدي فى عينيها , ابتسمت فى وجهنا و قالت لنا حكايتها .. انها أم لأربعة أولاد , اثنين على الجبهة واحد منهم فقد ذراعه اليمنى و الآخر لازال يحارب هناك و الاثنين الآخرين لصغر سنهم يساعدونها فى اعداد الطعام للثوار .. و أنها تفعل ذلك من أجل وطنها و من أجل الحرية .. هي ليست حزينة على فقد ذراع ابنها أو حتى احتمالية فقد حياة ابنها الآخر .. بل أنها ظلت توزع علينا ابتسامات و تقول لنا نعد يوميا حوالي 15 ألف وجبة يوميا .. عادة ما تكون الأطعمة من الأطعمة التقليدية الليبية و نحن ننوع لهم و اذا أرادوا طبق معين يقولون لنا .. كنت أراها و هي تجلس لتقلب فى ذلك الوعاء الكبير الرز و الحمص و اللحم المفروم .. يرفعوا اناء فيضعون آخر أمامها و هي تقلب بيدها اليمنى - التى لا يملكها ابنها- بدون كلل أو تعب.
دخلنا لنرى الشباب و هم يغلفون الأطباق, كانوا يضعونها فى علب من ورق الألمونيوم و يغطونها بورقة كرتون و كانوا يكتبون على بعضها بعض الرسائل للثوار على الجبهة .. دارنة حرة , طرابلس لنا , الحرية لليبيا .. رسائل عديدة يبعثها الناس فى المدن المحررة لجنود التحرير و محاربي الحرية .ابتسانات توزع علينا فى هذا المكان يميناص و يساراً ..
أثناء عودتي الى مصر أخذت أراقب الرمال الحمراء و هي تتحول الى صفراء.. و لكني تذكرت أن الأصفر هو لون الشمس..